رياضة

الدوري السعودي: الديكتاتور العادل وقواعد اللعب المالي النظيف

هل تتصور أن الدوري السعودي مع كل هذا البذخ بات متفوقاً أيضاً على كل الدوريات العربية على مستوى اللعب المالي النظيف؟

future نجوم الكرة العالمية في دوري روشن السعودي، من اليمين: نيمار دا سيلفا، كريم بنزيما، كريستيانو رونالدو

الدوري السعودي هو الأفضل في المنطقة العربية!

هذه الآن حقيقة تندرج تحت تصنيف «المعلوم من كرة القدم بالضرورة»، لكن إذا كنت تعتقد أن الأمور بدأت من كريستيانو رونالدو وجنون الصفقات التي بدأت في الميركاتو الشتوي لموسم 2022-2023 فأنت مخطئ … ذلك لأن الواقع هو أن الدوري السعودي الأفضل دون منازع في المنطقة العربية منذ 10 سنوات على الأقل.

بكل المعايير، لا يمكن أن تقارن أي مسابقة عربية بالدوري السعودي على المستوى الفني، الجماهيري، القيم السوقية، النظام، الجدولة، السعودية تفوقت منذ وقت طويل؛ لأنه في 2018، وعلى لسان رئيس الهيئة العامة للرياضة حينها، ورئيس هيئة الترفيه حالياً، تركي آل الشيخ: «هناك خطة بأن يصبح الدوري السعودي من بين الأفضل في العالم».

لكن هل تتصور أن الدوري السعودي أيضاً بات متفوقاً على كل الدوريات العربية على مستوى اللعب المالي النظيف؟ بالتأكيد لن تتصور أن الفرق التي تنفق بكل هذا البذخ تعرف هذا المفهوم أصلاً … لكن الواقع أن السعودية خطت خطوات عديدة نحو هذا المفهوم الذي بات بديهياً في دوريات العالم الكبرى.

المتعارف عليه!

ما يبدو متعارفاً عليه هو أن الدوري السعودي ملاذ كل من يريد التحايل على قوانين اللعب المالي النظيف من بين كبار أوروبا، تسويق لاعب أو لاعبين بقيم كبرى في الدوري السعودي سيعني إدرار ما يعادل 100 مليون يورو على الأقل، ستريح كبار أوروبا في حسابات اللعب المالي الصارمة لديهم.

في الدوري الإنجليزي مثلاً، تنطبق بنود الشفافية المالية على كل الأندية المشاركة في بطولات الاتحاد الإنجليزي، وتتولى جهات تحقيق منفصلة عن عالم الرياضة القضايا المتعلقة بهذه الملفات، وتشترط على الأندية ضرورة معادلة أرقام الإنفاق والضخ، أي إن الفريق الذي يجلب جنيهاً إسترلينياً يستطيع إنفاق جنيه إسترليني وهكذا.

في إسبانيا، تبدو الأمور أكثر صرامة؛ إذ تجبر الأندية المشاركة في بطولات رابطة الدوري الإسباني على الالتصاق أولاً بقواعد المكسب والخسارة وفق نسب أكثر صرامة من إنجلترا، لكن أيضاً تدخل رواتب اللاعبين والإنفاق الداخلي على فرق كرة القدم ضمن إطار المراجعة، ولهذا يجد برشلونة على سبيل المثال مشاكل دائمة منذ رحيل لاعبيه الكبار في تسجيل لاعبيه الجدد في خضم أزمة اقتصادية طاحنة تضرب النادي الكتالوني.

أما في السعودية، فقد يبدو لك للوهلة الأولى أن الإنفاق غير مقنن، إلا أن العكس تماماً هو الحقيقي.

هل هناك لعب مالي نظيف في السعودية حقاً؟

قبل عام 2020، كان معظم إنفاق الأندية على صفقاتها الكبرى في الدوري السعودي، يسير بشكل واحد، إما أموال الإدارة بشكلها الكلاسيكي، أو «مساعدات المحبين» على غرار العديد من الأندية العربية، لكن من البديهي أن محبي فرق الدوري السعودي أكثر سخاء!

في 2020 حدث تحول مهم في مسار اهتمام الدوري السعودي بمسألة اللعب المالي النظيف، وهو اعتماد الأمير عبد العزيز بن تركي الفيصل، وزير الرياضة رئيس اللجنة الأولمبية السعودية، ما عرف باسم لائحة الكفاءة المالية للأندية الرياضية.

البيان الرسمي لاعتماد ما عُرف بلائحة الكفاءة المالية قال إن الهدف الرئيس الذي ستعمل عليه هو: «تنفيذ المعايير المنظمة لإدارة الأندية، لتطبيق أفضل ممارسات الحوكمة المالية، لضمان استقرارها ونموها وتحقيق الأهداف المأمولة منها».

في تلك اللائحة بشكل صريح، ذُكرت ضرورة جلب موارد إلى الأندية على مستوى النفقات التي تخرج منها كل مواسم، ووجود حساب واضح لهذا الملف، لأول مرة في تاريخ الرياضة السعودية.

كانت النفقات آنذاك عادية بعض الشيء، قياساً للدوريات الكبرى المشمولة بقواعد اللعب المالي النظيف من جهة، وقياساً لموارد الأندية السعودية ومحبيها من جهة أخرى.

في يونيو 2022، أُعلِن تأسيس ما يعرف بلجنة اللعب المالي العادل، والتي بدأت عملها من بداية موسم 2022-2023، الموسم الطفري في الدوري السعودي.

قوبل الأمر بترحيب واضح من الكثيرين، لكنه قوبل أيضاً ببعض المقاومة التي رأى كبار منظريها آنذاك أن تطبيقه لا يساوي بين كبار وصغار الدوري السعودي، ومنهم اللاعب والمدرب والإداري والإعلامي السعودي طارق كيال.

لكن في شتاء 2023، بعد انفجار طفرة الإنفاق المجنون في الدوري السعودي، خصوصاً في أعقاب وصول كريستيانو رونالدو، كان لا بد من تغير خارطة المشهد، والانسياق إما وراء إلغاء ما يعرف باللعب المالي النظيف، أو أن تطرأ تعديلات تجعل الأمر قابلاً للتطبيق في ضوء الرغبة السعودية على أعلى المستويات السياسية في أن يقف الدوري السعودي رأساً برأس مع كبار دوريات أوروبا.

بالمناسبة، كانت صفقة انضمام كريستيانو رونالدو إلى النصر مجانية، لكن البعض لا يعلم أن راتب رونالدو خلال عامين ونصف مع النصر سيصل إلى 600 مليون يورو، هذا دون التطرق إلى عقود الرعاية الخيالية نظير ترويج رونالدو للمملكة، وحينها كان لا بد من ممول للصفقة، كان شركة الوسائل السعودية للدعاية والإعلام، المطور الإداري واللوجيستي الذي اقتحم المجال الرياضي في السعودية بقوة خلال السنوات الأخيرة.

لكن هذا لم يكن كافياً لحل سؤال اللعب المالي النظيف في صفقة رونالدو والعديد من الصفقات الأخرى التالية في الميركاتو الأكثر جنوناً الخاص بموسم 2023-2024، والذي تم فيه ضم أسماء مثل كريم بنزيما وساديو ماني ورياض محرز وروبرتو فيرمينو ونيمار، وغيرهم من كبار نجوم الصف الأول في العالم.

لذلك، كان هناك تعديل في قواعد اللعب المالي النظيف في الدوري السعودي في شهر يوليو 2023، يمكن أن نقول إنه ضمانة عدم انفلات زمام الكرة السعودية التي انصهرت بالكلية في خضم الرغبة السياسية لصناعة الدوري الأقوى في العالم.

إما رونالدو أو السعودة!

كان على الدوري السعودي المفاضلة بين عنصرين، إما إنفاق لا ضابط له يجعل الدوري السعودي يحقق كل ما يشتهي، وإما التمسك ببعض ما بقي من منطق وسعودة بعض الجوانب في الكرة المحلية، وقرارات صيف 2023 ضمنت موازنة رائعة بين الجبهتين بشكل مثير للإعجاب.

فقد أعلنت رابطة الدوري السعودي للمحترفين إطلاق ما عرف بإستراتيجية التحول في المسابقة، والتي تهدف إلى: «تطوير العمل الإداري لكرة القدم في الأندية، وبرنامج استقطاب نخبة اللاعبين، وتنظيم أعمار اللاعبين السعوديين المشاركين في الدوري السعودي بالتنسيق مع الاتحاد السعودي لكرة القدم».

المسار الأول يمكن أن يكون كليشيهاً تقليدياً اعتدنا عليه في البرامج من هذا النوع، إلا أن السعوديين كانوا أكثر جدية باستقطاب كوادر أجنبية، وتثبيت معايير ورخص إدارية وتدريبية واضحة لكل العاملين في النوادي.

المساران الآخران لعمل الإستراتيجية هما الأكثر تداخلاً في النقاط التي ذكرناها، أولاً برنامج استقطاب نخبة اللاعبين، وهو البرنامج الذي يضمن التنسيق الكامل بين الرابطة وإدارات الأندية للحصول على أفضل اللاعبين حول العالم وضمهم إلى صفوف كل نادٍ وفق رغبته ومدى إتاحة هذا لنادٍ دون آخر.

أما الجزء الثالث فهو مهم للغاية؛ لأن الانتقادات التي نالت الطفرة السعودية من الداخل، كانت تتحدث عن تهميش اللاعب السعودي أمام اللاعب العالمي، ولذلك وُضعت خطة تنتهي في موسم 2025-2026 تسفر عن تعزيز وجود اللاعبين السعوديين تحت السن في قوائم الفرق المحلية، مع خفض أعمارهم من 18 إلى 16 عاماً للعب ضمن صفوف الفرق الأولى.

الديكتاتور العادل!

رغم كل هذا، أبقى صندوق الاستثمارات السعودية الذي يرأسه ولي العهد محمد بن سلمان معطى مهماً في قبضته، لكي يمنح الأندية الأربعة الأكثر جماهيرية؛ الهلال، النصر، الأهلي، الاتحاد، ميزانية مختلفة عن باقي الفرق، بانضوائها جميعاً تحت ملكيته في قرار تاريخي.

من المطلوب أن يكون هناك تنافس له جوانب تاريخية في دوري يقدم نفسه للعالم، هذا هو المنظور الذي رأى صندوق الاستثمارات المملوك لابن سلمان ضرورة فصل الأربعة الكبار عن باقي الأندية فيما يتعلق بالميزانيات وما يمكن دفعه في الميركاتو، لذلك نرى الأربعة الكبار لديهم أسماء مثل رونالدو وبنزيما ومحرز ونيمار، بينما يملك باقي الأندية كاراسكو وبانيجا وغيرهم من نجوم الصف الثاني والثالث في أوروبا … كل هؤلاء في نفس الترتيب يشكلون لك دورياً كبيراً، تماماً كشاكلاته في أوروبا.

السعوديون لم يبتدعوا تمييز الأندية الكبرى في حساب المداخيل المالية، ولست هنا أتحدث عن حقوق الرعاية في الدوري المصري مثلاً، والتي توزع بالجماهيرية لا غيرها، بل أتحدث عن دوري منظم لائحياً وناجح تسويقياً وجماهيرياً، ومن بين أهم دوريات العالم هو الدوري الإسباني.

هل تعلم أن برشلونة وريال مدريد يستحوذان على نحو ربع حقوق بث الدوري الإسباني المقرة من رابطة الليجا؟ إذا كنت تعلم، فأنت تعلم بالبديهة أن برشلونة وريال مدريد يشكلان 90٪ تقريباً من مشاهدات المسابقة حول العالم، ويبدو لك هذا الأمر منطقياً.

هذا الأمر ليس منطقياً مثلاً في إنجلترا، الأكثر عدالة في مسألة حقوق البث التليفزيوني، والتي تمنح للمتأهلين حديثاً ما يوازي 3 أضعاف ما تحصل عليه باقي الأندية كي تتمكن الأندية الواصلة إلى الدوري الممتاز من بناء قدراتها التنافسية على شاكلة منافسيها.

لماذا إذاً يُنتقَد الدوري السعودي في سلوك مماثل؟ لو جاز استخدام متناقضة «الديكتاتور العادل» فربما يكون مكانها الأنسب هنا في هذه المقاربة!

على كل حال، تجربة الدوري السعودي ستحفل بمتغيرات مجنونة جنون ما أقدمت عليه في 2023 حين استُقدِم كريستيانو رونالدو … وما يبدو الآن مثيراً للإعجاب قد يكون مثاراً للسخط في وقت لاحق، لكن المؤكد أن نظرتنا لعدم اكتراث السعودية لهذا الملف ليست حقيقية، فدول عربية أعرق بكثير في كرة القدم من السعودية لا يعرف مسئولوها الرياضيون أصلاً ما الذي يعنيه «لعب مالي نظيف»!

# دوري روشن السعودي # كرة القدم السعودية # رياضة # كرة قدم

التحرش وكرة القدم النسائية: الخطر الأكبر الذي يهدد اللعبة
كيف جمعت كرة القدم بين الخبث والجمال؟
كيف أتت الشركة الألمانية بنظام الدوري الجديد؟

رياضة